المشهداني وخلط الأوراق: مناورة سياسية أم صراع طائفي موجه؟
في لحظة سياسية شديدة الحساسية، أثار محمود المشهداني، رئيس مجلس النواب العراقي الحالي، جدلًا واسعًا بعد ضجة حدثت تحت قبة البرلمان. وقد وُصفت هذه الضجة من قبل مراقبين بأنها لم تكن خلافًا برلمانيًا تقليديًا، بل محاولة مدروسة لخلط الأوراق قبيل الانتخابات، تهدف إلى إعادة ضخ الخطاب الطائفي في ساحة شعبية بدأت تميل نحو العزوف واللامبالاة. رغم أن الحادثة بدت في ظاهرها خلافًا داخل البرلمان، فإن توقيتها، وطريقة تصعيدها، وتركيبتها الطائفية، دفعت كثيرين إلى اعتبارها جزءًا من تحرك سياسي مقصود، يستهدف إثارة الانقسام المذهبي، وشحن الشارع عاطفيًا، من أجل دفع الجماهير – التي باتت تميل إلى المقاطعة – نحو المشاركة، لا اقتناعًا بالعملية السياسية، بل خوفًا من “الخسارة” أو “التهديد”.
لا تخفى على أحد الأساليب التي تُستخدم قبيل كل استحقاق انتخابي في العراق. فمن المألوف أن تُفتعل أزمات سياسية أو إعلامية، تُبرز قضايا خلافية أو رموزًا طائفية، ليتم تسويقها شعبيًا على أنها “قضايا وجودية” للمكون أو الطائفة. وفي كل مرة، تنجح هذه الأزمات في حرف الأنظار عن الفشل الحكومي والسياسي المزمن، وتحويل المزاج الشعبي من المساءلة إلى التعاطف أو الغضب. ما جرى مع المشهداني لا يبتعد عن هذا الإطار. فالرجل، بصفته شخصية سنية تتبوأ أعلى منصب تشريعي في الدولة، وجد نفسه فجأة في قلب عاصفة سياسية، تزامنت مع ضعف الإقبال المتوقع على الانتخابات، وارتفاع نبرة المقاطعة في مختلف المكونات.
وفقًا لبعض التحليلات، فإن ما حدث لا يمكن فصله عن دور أطراف سياسية شيعية نافذة قد تكون شاركت، أو على الأقل شجّعت، تصعيد الموقف، ليس بهدف إثارة الضجيج وحسب، بل بهدف تغذية انقسام داخلي داخل البيت السني و الشيعي معا، وفتح الباب أمام استثارة مشاعر الخوف والتحدي. هذا التكتيك يُستخدم لجرّ الشارع إلى التصويت من منطلق “الدفاع عن النفس”، بدل التصويت من أجل برنامج سياسي واضح.
بخلاف ما قد يبدو، فإن هذه المناورات لا تستهدف المكوّن السني وحده، بل هي محاولة لإعادة تعبئة جميع الجماهير المقاطعة، سواء من السنة أو الشيعة أو الكرد أو الأقليات، الذين فقدوا الثقة بالعملية الانتخابية وأدواتها. ففي ظل تصاعد نسبة العزوف الشعبي، تسعى القوى السياسية إلى تحريك الهُوية الطائفية كورقة أخيرة لإنقاذ نسب المشاركة، ولو عبر بوابة الأزمة والتهديد.
إذا استمر التعاطي مع الشارع العراقي من منطلق الانفعال والهُوية، فإن المخرجات ستكون واضحة: إعادة إنتاج نفس الطبقة السياسية التي فشلت مرارًا، واستمرار حالة الانقسام الطائفي والسياسي، وتغييب الحديث عن ملفات جوهرية كالفقر، الفساد، التعليم، الخدمات،وغياب العادلة، والسيادة الوطنية.
فالعملية الانتخابية، مهما تغيّرت واجهتها، ستبقى فارغة من مضمونها الحقيقي إن استُخدمت أدوات التخويف والتمثيل الطائفي بدل البرامج والكفاءات.
ما حدث مع المشهداني، سواء كان مفتعلًا أو مُستثمرًا، يجب أن يُقرأ كعلامة على أزمة أعمق في بنية النظام السياسي العراقي. فما زال الخطاب السياسي يُراهن على الطائفة لا على الوطن، وعلى العاطفة لا على الوعي، وعلى الصدمة لا على النقاش. في المقابل، لم يعد الشارع العراقي كما كان. الوعي الشعبي، وإن بدا صامتًا أحيانًا، يتزايد يومًا بعد يوم. والمطلوب اليوم ليس فقط المقاطعة أو المشاركة، بل التمييز بين من يُمثّل الناس ومن يستخدمهم. وبهذا فقط يمكن أن تتحوّل الانتخابات من أداة لإعادة إنتاج الأزمة إلى فرصة لتغيير حقيقي.