كذبة العراق الجديد… من سفارات المحاصصة إلى تدوير البعثيين
منذ 2003 وحتى اليوم، ظلّت عبارة “العراق الجديد” تُستخدم كشعار سياسي يُراد منه تبرير كل ما حصل بعد التغيير. قيل لنا إن العراق تحرّر من الاستبداد، وإن الدولة باتت ملكًا للمواطنين، وإن عهد المحسوبيات والتسلّط البعثي انتهى. لكن اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين، نجد أنفسنا أمام سؤال وجوديّ: هل ما نعيشه هو فعلًا عراقٌ جديد؟ أم نسخة معدّلة من العراق القديم بغطاء ديمقراطي مزيف ووجوه مختلفة فاسدة، وبلغة وثقافة بعثية أكثر دهاءً؟
التوازن المكوناتي… التسمية الأنيقة للمحاصصة الحزبية الفاسدة:
آخر فصول هذه الكذبة تجسدت في تعيين السفراء الجدد، الذين تم اختيارهم – لا على أساس تكافؤ الفرص المنصوص في “دستور العراق الجديد” – بل على أساس المحاصصة الحزبية والطائفية والعائلية. سفير من هذا الحزب، وآخر من ذلك التيار، وثالث كمكافأة لـ”جهة مشاركة”، ورابع لمجرد الولاء والخامس اخ واقارب فلان مسؤول، حتى لو لم يمتلك من المؤهلات إلا الانتماء الطائفي والحزبي والعائلي.
الدبلوماسية التي يفترض بها أن تمثل وجه الدولة الحضاري، باتت سوقًا للمزايدات السياسية وتقاسم الغنائم، تمامًا كما حصل مع بقية مؤسسات الدولة. والنتيجة: سفارات مشلولة، علاقات خارجية هشة، ووجه خارجي لا يمت بصلة لتاريخ العراق أو وزنه الإقليمي.
تدوير البعثيين… عفا الله عما سلف:
وإن لم تكن المحاصصة كافية لإهانة مفهوم “العراق الجديد”، فإن عودة بعض البعثيين إلى مناصب عليا في الدولة ومنها السفراء جاءت لتضع المسمار الأخير في نعش هذا المشروع المزعوم. فبعد أن كان “اجتثاث البعث” شعارًا أساسيًا في مرحلة ما بعد 2003، ها نحن اليوم نرى أسماء بعثية سابقة تعود إلى الصدارة في وزارة الخارجية ومؤسسات اخرى، تحت ذرائع “الكفاءة” أو “الخبرة” أو “الاستحقاق المناطقي”.
فكيف نُقنع الأمهات اللواتي قدمن أبناءهن في مقاومة النظام السابق، أن من كان يومًا جزءًا من ماكينة القمع، بات اليوم مسؤولًا ساميًا؟ وكيف يمكن لموظفٍ شريف طُرد بسبب انتمائه القومي والطائفي أو السياسي، وضحى وناضل من اجل عراق جديد وسُجن و هُجِر أن يرى بعثيًا سابقًا يتسلم منصبًا أعلى منه؟
إنّ هذا التوجّه لا يشكل فقط إهانة للعدالة، بل هو أيضًا إعلان فشل صريح للمشروع السياسي الذي تبنّته الطبقة الحاكمة بعد 2003. فإذا كانت “الخبرة” هي الذريعة، فأين ذهبت خبرات آلاف العراقيين الشرفاء الذين حُرموا من أي تمثيل لأنهم لا ينتمون لأحزاب السلطة؟
العراق الذي لم يولد بعد:
المشكلة لم تعد في الأسماء، بل في المنهج. لا دولة يمكن أن تُبنى على أساس المحاصصة والترضيات والانتقائية في العدالة. العراق الجديد – إن كان ثمة أمل في ولادته – لا بد أن يقوم على القطع الكامل مع ممارسات الماضي، لا إعادة تدويرها بمظهر جديد.
ما يجري اليوم هو محاولة مستميتة لإطالة عمر نظام مأزوم، يعيش على التوازنات الهشة والتسويات اليومية. دولة لا تعرف الاستقرار لأنها لا تمتلك أسسًا حقيقية لبنائه.
عراق ما بعد 2003، مشروع لم ينجُ من نفسه:
ما يحدث اليوم ليس مجرد فشل إداري، بل انهيار أخلاقي وسياسي لمشروع “العراق الجديد”. فبدل أن يكون دولة مواطنة، أصبح دولة أحزاب. وبدل أن يُجتث الاستبداد، جرى فقط تبديله بنسخ جديدة أكثر فسادًا وأقل كفاءة. وعوضًا عن محاسبة البعثيين، تمت إعادتهم على اساس ان تخدمني الآن فعفى الله عما سلف وان لا فانت مشمول باجتثاث البعث، بينما لا يزال آلاف المناضلين والمضحين لا ينصفون مشردين أو مهمّشين أو منسيين.
العراق لا يحتاج إلى “سفراء أحزاب”، ولا إلى “بعثيين بربطات عنق”، بل يحتاج إلى رجال دولة حقيقيين، يؤمنون بالوطن قبل الحزب، وبالعدالة قبل الولاء، وبالمواطن قبل الطائفة. وحتى يأتي ذلك اليوم، ستبقى كذبة العراق الجديد تتكرر على أفواه الساسة، وتنكشف يومًا بعد يوم في أعين الناس الذين لم يعودوا بحاجة إلى من يشرح لهم، لأنهم يرون الحقيقة كل يوم.
في الختام:
ما يحدث اليوم ليس مجرد اختلال في التوازن السياسي، بل انهيار في قيم الدولة التي كنا نحلم بها. دولة لا تُحاسب، ولا تراجع نفسها، بل تمضي في طريق المحاصصة والترضيات حتى النهاية، ولو على حساب شعبها.
“العراق الجديد” لم يُبنَ بعد، وربما لم يُرَد له أن يُبنى أصلًا. فالذي بُني فعليًا هو نظام بديل يرتكز على مبدأ تقاسم السلطة لا إدارتها، وعلى الولاءات لا الكفاءات، وعلى النسيان لا المحاسبة. وإلى أن يأتي مشروع وطني حقيقي، يخرج من رحم الشعب لا من صفقات الغرف المغلقة، ستظل كذبة “العراق الجديد” تتردد في خطابات السياسيين، لكنها لن تجد من يصدّقها بعد اليوم.