الشرق الأوسط أمام ساعة صفر جديدة.. وأطماع في لحظة غسق الحرب
كتب / د. ميساء المصري
على اعتاب عام 2026 تبدو المنطقة فوق فوهة بركان جيوسياسي، حيث تتقاطع خطوط النار بين سوريا ولبنان وغزة وإسرائيل، بينما تدخل المنطقة مرحلة خطيرة وصفها كبار المحللين الإسرائيليين بـغسق الحرب، تلك اللحظة التي تتداخل فيها هدنة غير مستقرة مع هندسة ترتيبات سياسية وأمنية ستحدد شكل الشرق الأوسط لسنوات مقبلة. في هذه المرحلة الهشة، تُستبدل القوة العسكرية بالتفاوض الدبلوماسي، لكن السلاح لا يزال حاضرًا يضغط ويبتز ويعيد رسم موازين القوى.
سوريا الجديدة هي الحلقة الأضعف في هذا المشهد. فمع اتساع الفوضى السياسية والاقتصادية، يصعد أنصار النظام السابق، مستندين إلى شبكات مالية معقّدة تمتد بين موسكو وأبوظبي ولبنان، وتنظيم عسكري عميق يضم نحو 67 ألف مقاتل و14 غرفة قيادة سرية ومخازن أسلحة تحت الأرض. هذه المعطيات، وإن ظلّت في إطار المعلومات شبه السرية، تكفي لخلق احتمال حقيقي لانفجار داخلي قد يتحول إلى حرب أهلية شاملة، خصوصًا مع عجز السلطة المؤقتة بقيادة أحمد الشرع عن ضبط المشهد أو تحييد نفوذ الميليشيات.
الخطر لا يقتصر على الداخل السوري، إذ يمتد إلى الحدود اللبنانية، حيث يُخشى أن يؤدي أي اشتعال واسع إلى انهيار ما تبقى من توازن هش في الجنوب، ويضع لبنان وإسرائيل وتركيا في قلب عاصفة إقليمية. فإسرائيل التي تواجه آلاف الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة لدى خصومها، تعرف أنها أقرب ما تكون إلى جبهة داخلية مكشوفة. وتحذيرات جيشها تؤكد أنّ مواجهة متزامنة في لبنان وغزة وسوريا ستُربك منظومتها الأمنية، رغم تفوقها العسكري، وقد تُهدد تل أبيب نفسها.
وسط هذا المشهد، يتدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقوة ليحرك عجلة الانتقال من الحرب إلى الدبلوماسية. فوفقًا لتحليلات إسرائيلية، فإن ترامب هو من دفع إسرائيل نحو غسق الحرب، أي نحو الانتقال من الهجوم إلى هندسة ترتيبات سياسية وأمنية، تشمل غزة ولبنان وربما سوريا. و أهداف ترامب ليست خافية، يريد شرقًا أوسط مستقرًا يعزز نفوذ شركاته العقارية والمالية في المنطقة، ويحمي الهيمنة الأمريكية أمام الصين وروسيا، ويمنحه فرصة تاريخية لوهم للسلام.
وبناء على تعليمات ترامب، بدأ نتنياهو خطوات عملية، منها الموافقة على فتح معبر رفح شكليا لخروج المرضى تحت إشراف دولي في اتجاه واحد، وإرسال ممثلين مدنيين للمفاوضات المباشرة مع لبنان لأول مرة منذ التسعينيات. لكن في المقابل، لا تزال إسرائيل تصعّد في سوريا ولبنان من الجوّ، وتُلوّح بالحسم إذا لم تُنزع أسلحة حزب الله قبل 31 ديسمبر الحالي، وهو موعد الإنذار الذي منحته واشنطن لبيروت.
على الأرض، تشير تقارير إسرائيلية إلى أنّ الجيش اللبناني، مدعومًا بالقصف الإسرائيلي، نجح في تطهير معظم جنوب لبنان من وجود حزب الله، لكن تفكيك القوة العسكرية شمال الليطاني بات شبه مستحيل دون حرب أهلية. حزب الله منهك ماليًا، فقد معظم صواريخه، لكنه يعيد بناء قوته بالطائرات المسيّرة، فيما تراهن واشنطن وتل أبيب على ضغط الطوائف اللبنانية ضده لدفعه نحو قبول تسوية قاسية.
أما نتنياهو، الذي يخوض عامًا انتخابيًا، فيتطلع إلى نصر شامل، ويرفض أي دور للسلطة الفلسطينية أو تركيا أو قطر في غزة. ويطالب بانتزاع سلاح حماس دبلوماسيًا أو عسكريًا، وفرض منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا تمتد عشرات الكيلومترات من الجولان إلى جنوب دمشق، إضافة إلى وقف تسليح إيران ومنع تمدد الحوثيين نحو الحدود.
وفي المقابل، يعيش الأردن لحظة قلق استراتيجي غير مسبوقة. ففوضى سوريا قد تدفع بموجات نزوح ضخمة نحو إربد والرمثا، وتفتح الباب أمام تسلل خلايا مسلحة تهدد الأمن الداخلي. اقتصاديًا، أي انهيار إضافي في الإقليم سيضغط على الدولة ويستنزف مواردها، ما يفرض على عمّان إعادة تموضع حرج في تحالفاتها للحفاظ على استقرارها.
أما روسيا، فتواصل لعبتها المزدوجة، تستقبل مخلوف وحسن والأسد، وتسمح بحركتهم، وفي الوقت نفسه تستقبل شكاوى دمشق الجديدة، في سياسة تضمن لها الضغط على النظام الجديد مع الحفاظ على نفوذها في الساحل وقواعدها في حميميم وطرطوس. هذه الازدواجية تثير قلق تركيا التي تخشى تمدد النفوذ العلوي قرب حدودها، خاصة مع توتر علاقاتها مع موسكو.
في الوقت ذاته، يركز الجيش الإسرائيلي على إعادة بناء قوته بعد عامين من الحرب، ويريد الانتقال من استراتيجية الاحتواء إلى الإحباط والضربة الاستباقية، والاستعداد لهجوم مفاجئ في أي من ساحات القتال السبع، غزة، لبنان، سوريا، العراق، إيران، البحر الأحمر، والحدود الشرقية.
المشهد برمته يشير إلى أن الشرق الأوسط يقف أمام ساعة صفر جديدة. القوى الكبرى تريد إعادة تشكيل الإقليم وفق مصالحها، بينما تتقاطع طموحات الأنظمة، وانهيار الدول، وتآكل الجبهات الداخلية، وصعود الميليشيات، في بوتقة واحدة متفجرة.
ما يجري ليس مجرد انتقال إلى الدبلوماسية… بل انتقال إلى صراع جديد بصيغة أخرى، حيث يتحرك الإقليم كله نحو مرحلة لا يمكن التنبؤ بنتائجها، وقد تكون أكثر خطورة من كل ما سبق…