أزمة رئاسة الوزراء في العراق: من دولة التوازنات إلى الدولة الحضارية الحديثة..!
كتب / محمد عبد الجبار الشبوط
ليست أزمة الاتفاق على رئيس الوزراء في العراق حدثًا سياسيًا عابرًا ولا تعقيدًا تفاوضيًا مؤقتًا، بل هي انعكاس مباشر لاختلال عميق في مفهوم الدولة ذاته. فالمشكلة لا تبدأ عند الأسماء، ولا تنتهي عند الكتل، بل تتجذر في طبيعة الدولة التي أُعيد بناؤها بعد 2003 بوصفها دولة تسويات لا دولة مشروع، ودولة توازنات لا دولة غاية حضارية مشتركة.
جذور المشكلة: الدولة بوصفها غنيمة لا كيانًا حضاريًا
في النموذج القائم، لم تُفهم الدولة بوصفها إطارًا حضاريًا جامعًا يعلو على الجماعات، بل بوصفها ساحة توزيع نفوذ بين قوى سياسية واجتماعية وهوياتية متنافسة. وهنا تحوّلت السلطة التنفيذية، وعلى رأسها رئاسة الوزراء، من وظيفة حضارية لإدارة الشأن العام وتحقيق الصالح المشترك، إلى موقع تفاوضي تُقاس قيمته بقدر ما يتيحه من موارد وحماية ونفوذ.
غياب الرؤية الحضارية للدولة جعل المنصب التنفيذي الأعلى:
• بلا برنامج جامع سابق على الأشخاص،
• وبلا معايير موضوعية للحكم على النجاح أو الفشل،
• وبلا عقد أخلاقي واضح بين الحاكم والمجتمع.
وعندما تغيب الغاية الحضارية، يصبح الصراع على المنصب صراعًا على التحكّم لا على الإنجاز، وعلى الضمانات لا على المسؤوليات.
الدولة غير المكتملة وإنتاج الانسداد السياسي
النظام السياسي العراقي صُمّم لإدارة التنوّع عبر التوافق الدائم، لا لإنتاج قرار حاسم. هذا النمط قد ينجح مؤقتًا في منع الانفجار، لكنه يفشل بنيويًا في بناء دولة فاعلة. فالدولة التي لا تملك مركز قرار واضح، ولا أغلبية تحكم، ولا معارضة تحاسب، تتحول إلى جهاز مشلول يخشى الحركة أكثر مما يسعى إلى الفعل.
في هذا السياق، يصبح اختيار رئيس الوزراء عملية تعطيل متبادل، لأن كل طرف ينظر إلى المنصب باعتباره تهديدًا محتملًا لا أداة خدمة عامة. وهكذا يُفرَغ الموقع التنفيذي من روحه قبل أن يتشكل، وتُكبَّل الحكومة مسبقًا بشبكة التوازنات التي صنعتها.
غياب المعنى الحضاري للسلطة
في الدولة الحضارية الحديثة، السلطة ليست امتيازًا ولا غنيمة، بل وظيفة أخلاقية قائمة على المسؤولية، والشفافية، والإتقان، وخدمة الإنسان. أما في النموذج القائم، فقد انقطعت العلاقة بين السلطة والقيم العليا، فتحولت السياسة إلى إدارة مصالح، لا إدارة معنى.
وهنا يكمن أحد أخطر الجذور:
أن النظام لم يُنتج سياسيًا حضاريًا يرى في الحكم تكليفًا، بل أنتج فاعلًا سلطويًا يرى في الدولة أداة صراع وبقاء.
أفق الحل: الدولة الحضارية الحديثة بوصفها مخرجًا بنيويًا
الحل لا يكمن في تبديل الأشخاص، ولا في إعادة تدوير الصيغ نفسها، بل في إعادة تعريف الدولة من أساسها وفق منطق حضاري حديث، يقوم على عدة مرتكزات:
أولًا: تحويل الدولة من ساحة توازن إلى مشروع حضاري
الدولة الحضارية الحديثة تقوم على غاية واضحة: بناء إنسان حر، عادل، مسؤول، مبدع. وعند وضوح الغاية، يصبح المنصب التنفيذي وسيلة لتحقيقها، لا هدفًا بحد ذاته.
ثانيًا: الانتقال من التوافق الشامل إلى الأغلبية المسؤولة
لا دولة بلا قرار، ولا قرار بلا أغلبية تحكم ومعارضة تحاسب. الدولة الحضارية لا تخشى الاختلاف، لكنها ترفض الشلل باسم التوافق.
ثالثًا: ربط السلطة بالقيم لا بالهويات
في الدولة الحضارية، لا تُمنح الشرعية على أساس الانتماء، بل على أساس الكفاءة والنزاهة والقدرة على الإنجاز، ضمن إطار قيمي جامع.
رابعًا: إعادة الاعتبار للمنصب التنفيذي بوصفه وظيفة لا صفقة
رئاسة الوزراء يجب أن تُفهم كموقع إدارة حضارية للدولة، محكوم ببرنامج واضح ومحاسبة صارمة، لا كحل وسط بين مراكز قوى.
خاتمة
إن أزمة رئاسة الوزراء في العراق ليست أزمة تأخير في التوافق، بل أزمة غياب دولة مكتملة المعنى. وما لم يُعاد بناء الدولة بوصفها كيانًا حضاريًا حديثًا، فإن كل انتخابات ستفتح الأزمة نفسها، وكل حكومة ستولد مثقلة بقيودها، وسيبقى المنصب الأعلى عاجزًا عن أن يكون أداة بناء حقيقي.
الدولة الحضارية الحديثة ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة تاريخية للخروج من دائرة الانسداد، والانتقال من سياسة إدارة الأزمات إلى سياسة صناعة المستقبل.