حين تصمت الجموع… تتكلم القلة التي لا تنحني..!
كتب / امين السكافي
إلى متى سيدفع أحرار هذه المنطقة ثمن مواقف العزّة والكرامة ونصرة فلسطين، في عالمٍ اختلّت فيه الموازين، فصار الحقُّ متهماً، والباطلُ محمولاً على الأكتاف، واللومُ سيفاً مسلولاً على رقاب المظلومين لا على أيادي الظالمين؟ سؤالٌ يتردّد كالصدى في وديان الروح، كلّما سال دمٌ حرّ، أو ارتفعت رايةُ كرامة، أو انحنت أمٌّ على صورة ابنٍ اختار أن يكون واقفاً لا راكعاً.
لقد أفرغ العالم جوفه من المعنى، وامتلأ بالضجيج. شعاراتٌ لامعة بلا روح، وخطبٌ منمّقة بلا فعل، وإنسانيةٌ ترفع الصوت حيث لا كلفة، وتصمت حيث يكون الثمن دماً ودمعاً. والمسلمون، وهم يشكلون رقما كبيرا من هذا العالم، يقفون في صمتٍ رهيب، لا يكسرونه إلا حين يوجّهون سهام النقد لمن قدّم الدماء والأرواح وفلذات الأكباد، كأن التضحية جريمة، وكأن الوقوف في وجه الطغيان تهوّر لا شرف فيه.
لكن هذا هو ديدن التاريخ، وسنّة الصراع بين الحق والباطل. لم يكن الأحرار يوماً كثرةً تُقاس بالأرقام، بل قِلّةً تُقاس بالمعنى. وكما أخبرنا ربّ العباد: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}، فهنا تلعب النوعية دورها، لا الكمية، وتعلو قيمة الإنسان بما يحمل في قلبه لا بما يردّده على لسانه.
وفي زمن التباس المعايير، تبرز جهاتٌ لا تساوم على الحق، ولا تبيع الموقف في سوق المصالح. جهاتٌ اختارت أن تكون شاهدةً لا صامتة، وحاضرةً لا متفرّجة، وأن تدفع الثمن كاملاً غير منقوص. وفي طليعة هؤلاء، يقف شيعة جبل عامل، تلك الأرض التي أنجبت رجالاً من صخرٍ وإيمان، وجعلت من الكرامة خبزها اليومي، ومن نصرة المظلوم عقيدتها العملية. جبل عامل لم يكن يوماً جغرافيا فحسب، بل مدرسةً في الثبات، ومنبراً للصبر، ومرآةً صافية تعكس معنى أن تكون مع الحق ولو كنت وحدك.
هؤلاء لم ينتظروا تصفيق العالم، ولا شهادة المؤسسات، ولا رضا الصامتين. عرفوا أن طريق الحق موحش، وأن حمل الراية يجرح الكتف، لكنهم آمنوا أن الجراح أوسمة، وأن الدم حين يُسكب من أجل فلسطين، ومن أجل الإنسان، يتحوّل نوراً يهدي الأجيال.
قد يطول الليل، وقد يعلو ضجيج الباطل، لكن التاريخ لا يكتبه المتفرّجون، بل الذين دفعوا الثمن. وحين تسقط الأقنعة، سيبقى الأحرار قِلّةً… لكنهم القِلّة التي صنعت المعنى، وحفظت الميزان، ورفضت أن تنحني