الدولة ليست ساحة شعارات..!
كتب / عباس زينل ...
هل قيادة بلدٍ في مثل هذه الظروف، أو حتى في الظروف التي سبقتها منذ السقوط، أمرٌ سهل؟
سؤال يبدو بسيطًا في صياغته، لكنه معقّد في جوهره، ولا يمكن الإجابة عنه دون العودة إلى نقطة البداية.
ماذا ترك النظام السابق للطبقة الحاكمة الحالية؟
ترك بلدًا مُحتلًّا، متهالكًا إلى حدٍّ كبير، وشعبًا لم يعرف معنى الرفاهية يومًا. جوع، حرمان، وتأخّر فاضح عن بقية شعوب العالم. دولةٌ صفريّة من كلّ النواحي، بلا مؤسّسات رصينة، ولا اقتصاد متماسك، ولا أمن مستقر.
منذ اللحظة الأولى لاستلام الحكم، لم تُمنح هذه الطبقة فرصة حقيقية لإعادة البناء. فقد بدأت الجماعات والتنظيمات المسلّحة تنشط بحجّة محاربة “الحكم الصفوي”، ولم تترك سوقًا ولا جامعًا ولا شارعًا إلّا وفجّرت فيه سيارةً مفخّخة أو حزامًا ناسفًا. ومع كلّ موجة قتلٍ جماعي واستهدافٍ عشوائي للناس، كانت التهمة الجاهزة دائمًا: الطبقة السياسية هي المسؤولة.
وعندما عجزت التفجيرات عن إسقاط الحكم الشيعي، انتقلوا إلى مرحلة أخطر. جاؤوا بتنظيمٍ كبير، مدعومٍ من أغلب الدول، فسقطت معظم المحافظات الغربية، وكان الهدف النهائي بغداد. ورغم حجم الدعم الإقليمي والدولي، تمّ ردع ذلك التنظيم، وفشل المشروع مرّةً أخرى، كما فشل في كلّ محاولاته السابقة.
عندها أدركوا أنّ استخدام القوّة الخشنة مع الشيعة خيارٌ خاسر، فلجأوا إلى الحروب الناعمة، واستهداف الفكر والوعي. وتحت عنوان محاربة الفساد، نظّموا أكبر وأقوى موجة احتجاجات شهدها العراق. حاولوا إشعال الاقتتال الداخلي، فلم ينجحوا، ثم استهدفوا أبرز القادة الذين هزموا تنظيماتهم، لكنّ النتائج ظلّت دون طموحاتهم، رغم كلّ الدعم والترويج الإعلامي.
لاحقًا، صعدوا إلى البرلمان عبر عناوين مثل “تشرين” و“التغيير”، غير أنّهم كانوا أوّل من ركض نحو المشاريع والمنافع. فشلوا في اختراق الحاضنة الشيعية أو تغيير وعيها أو بيئتها الاجتماعية، وهو ما انعكس بوضوح في نتائج الانتخابات، حيث لم يصحّ في دورة 2025 إلّا الصحيح، وفاز من يُمثّل البيئة العراقية الحقيقية، بيئة الأغلبية.
كلّ هذه الوقائع لم تكن خافية على الولايات المتحدة ولا على الغرب، بسفاراتهم وقنصلياتهم ووزارات خارجياتهم. حاولوا مرارًا إفشال الحكم، لكنّهم أخفقوا. ثم توصّلوا إلى قناعة مفادها أنّ حروب الإنابة لن تحقّق لهم هدفهم الأهم: المصالح الاقتصادية وهيمنة الدولار.
من هنا طُرحت فكرة “ضمّ الفصائل” تحت عنوان الحشد، برسالة سياسية واضحة: الاعتراف بالحكم مقابل ضبط السلاح وعدم استهداف المصالح الغربية. وكان الردّ واضحًا أيضًا: ضبط السلاح مقابل انسحاب القوّات العسكرية الأجنبية، وحصر العلاقة عبر القنوات الدبلوماسية فقط.
وسط هذا المشهد المعقّد من المؤامرات، والاستهدافات، والحروب الإقليمية، وتشابك مصالح النفط والدولار، يصبح اختزال المشهد بعناوين سطحية مثل: نزع، استسلام، مقاولة، خيانة، نوعًا من التجهيل المتعمّد. فقيادة الدولة ليست صفقة بيع وشراء، ولا علاقة جيرة عابرة، بل إدارة توازنات دقيقة في بيئة شديدة التعقيد.
نعم، هناك فسادٌ داخل الطبقة السياسية، وهناك ظلمٌ واضح في كثير من المؤسّسات الحكومية، ولا توجد عدالة كاملة في توزيع الثروات أو الفرص. لكن، وبكلّ إنصاف، لا توجد دولة في العالم خالية من الفساد أو مثالية في أدائها.
المطلوب اليوم ليس هدم النظام السياسي تحت ضغط الانفعال، بل مساندته، مع النقد والتصحيح. نعم، هناك ترفٌ لدى بعض السياسيين، وفجوة واضحة بينهم وبين الشعب، لكن هل يكون الحلّ هو الذهاب نحو الفوضى؟ وهل يُعقل أن تُدار الدول بالعاطفة بدل الحسابات الواقعية؟
واللافت أنّ قادة السياسيين من السُّنة والأكراد يُعدّون من أكثر الشخصيات ثراءً، ليس في المنطقة فقط، بل ربّما على مستوى العالم، ومع ذلك لم نشهد احتجاجات في مناطقهم تطالب بإسقاط منظوماتهم السياسية أو تغيير وجوههم الحاكمة.
في النهاية، السياسة فنّ الممكن، لا فنّ الأمنيات. تُدار بالتوازنات لا بالشعارات، وبالعقل لا بالغضب. وما نراه اليوم أنّ العراق، رغم كلّ العواصف، مُقبِل على قدرٍ من الاستقرار، خدميًا وسياسيًا، وربّما اجتماعيًا أيضًا، إذا ما أُحسن إيصال الفكرة إلى الداخل بوعي ومسؤولية.