نهاية الإمبراطورية الرقمية
كتب / احمد صالح سلوم
كان يوماً مشمساً في وادي السيليكون، حيث يتجول المهندسون بين مقاهي اللاتيه العضوي ويحلمون بثورة تكنولوجية جديدة، عندما وصلت الأخبار المرعبة من الشرق: الصين، تلك الدولة التي كانت – حسب الرواية الأمريكية الرسمية – مجرد مصنع رخيص للألعاب البلاستيكية والأحذية المقلدة، قد بنت آلة طباعة رقائق بالأشعة فوق البنفسجية الشديدة في مختبر سري في شنزن. نعم، نفس الآلة التي كانت ASML الهولندية تتباهى بأنها “أعقد جهاز صنعه الإنسان على الإطلاق”، وأن الصين ستحتاج إلى عقود – بل ربما قرون – لمجرد فهم كيفية عملها، فضلاً عن صنعها.
ad
لكن الصينيين، بطبيعتهم المزعجة تلك التي ترفض احترام التوقعات الغربية، فعلوها في سنوات قليلة فقط. ولم يكتفوا بتقليدها، بل بدأوا يتحدثون عن تحسينها، عن مصادر ضوء أفضل، عن تكلفة أقل، عن إنتاج أسرع. وفي واشنطن، بدأت الأصوات ترتفع: “هذا غير عادل! هذا غير سوقي! يجب أن نفرض رسوماً جمركية!”
يا لها من لحظة تاريخية مؤثرة. الولايات المتحدة، التي كانت تتباهى ذات يوم بأنها أرض الابتكار الحر والمنافسة الشريفة، تلجأ الآن إلى الجدران الجمركية لحماية ما تبقى من هيبتها التكنولوجية. كأن طفلاً كبيراً يخسر لعبته المفضلة في ملعب الحي، فيصرخ “هذا غش!” ويطلب من أمه أن تحظر اللعب مع الأطفال الآخرين.
لنعد قليلاً إلى الوراء. كانت أمريكا تؤمن، بكل إخلاص، أن تفوقها التكنولوجي محمي بجدار منيع يدعى “التعقيد”. آلة EUV ليست مجرد جهاز، بل هي تحفة فنية تحتوي على مئة ألف قطعة، بعضها أدق من شعرة الإنسان، وتتطلب تعاوناً بين شركات هولندية وألمانية ويابانية وأمريكية، وسلاسل إمداد تمتد عبر القارات. “لا يمكن لأحد تقليدها”، قال مسؤولو ASML بثقة. “حتى لو سرقوا الرسومات، لن يفهموا كيف تجميعها”. وكرر الساسة الأمريكيون الكلام نفسه، مضيفين لمسة وطنية: “نحن الأذكى، نحن الأكثر إبداعاً، نحن أبناء ستيف جوبز وإيلون ماسك”.
ثم جاءت الصين، بأسلوبها الهادئ المخيف، وبدأت تستثمر مئات المليارات في البحث، وتجنّد آلاف المهندسين، وتبني مختبرات سرية، وتجند حتى بعض الخبراء السابقين في ASML (يا للمفاجأة!). وفجأة، في ديسمبر 2025، أصبح لديها نموذج أولي يعمل. يولد ضوء EUV، يصدر نبضات ليزر، يعد بإنتاج رقائق متقدمة. ليس مثالياً بعد، بالطبع – فالصينيون لا يزالون بحاجة إلى بضع سنوات للوصول إلى الإنتاج التجاري – لكن المسار واضح: هم قادمون، وبسرعة.
في هذه الأثناء، ماذا فعلت الولايات المتحدة؟ هل ضاعفت استثماراتها في البحث الأساسي؟ هل أصلحت نظامها التعليمي الذي ينتج ملايين الخريجين في “دراسات الجندر” بينما ينقصها المهندسون؟ هل شجعت الشركات على الابتكار بدلاً من إعادة شراء أسهمها؟ لا، بالطبع. لقد فرضت المزيد من الحظر، والمزيد من الرسوم الجمركية، والمزيد من العقوبات. كأن الطريقة الوحيدة للفوز في سباق الابتكار هي منع الخصم من المشاركة في السباق أصلاً.
تخيلوا المشهد: في الوقت الذي يعمل فيه آلاف المهندسين الصينيين ليلاً ونهاراً في مختبراتهم، يجتمع الكونغرس الأمريكي لمناقشة زيادة الرسوم على الرقائق الصينية بنسبة 100% أو 200% أو ربما 1000%. “يجب أن نحمي صناعتنا الوطنية!” يصرخون، وكأن الحماية الجمركية يمكن أن تعوض عن فقدان القدرة التنافسية. إنها نفس الاستراتيجية التي استخدمتها بريطانيا في القرن التاسع عشر عندما بدأت تخاف من المنافسة الألمانية والأمريكية، ثم انتهت إلى فقدان إمبراطوريتها الصناعية تماماً.
والأجمل في الأمر هو التناقض الصارخ. أمريكا التي كانت تدرس العالم دروساً في “السوق الحرة” و”المنافسة العادلة”، أصبحت اليوم أكبر داعية للحمائية التكنولوجية. “لا يمكننا المنافسة بالابتكار”، يبدو أنهم يقولون ضمناً، “لذا سنمنافس بالعقوبات”. وفي الوقت نفسه، تستمر الشركات الأمريكية في نقل إنتاجها إلى آسيا لتوفير التكاليف، ثم تشتكي عندما يتعلم الآسيويون كيف يصنعون المنتجات بأنفسهم.
لنكن صرحاء: هذه ليست مجرد هزيمة تكنولوجية، بل هي هزيمة حضارية. الولايات المتحدة، التي كانت رمز الإبداع والمغامرة، أصبحت دولة تخاف من المستقبل، تحاول جاهدة الحفاظ على مكانة الماضي بالقوة لا بالجدارة. في الوقت الذي تبني فيه الصين مدناً جديدة وجامعات بحثية ومصانع رقائق، تنشغل أمريكا بإغلاق حدودها التكنولوجية، كأن جداراً جمركياً يمكن أن يوقف تقدم شعب يبلغ عدده 1.4 مليار نسمة، ويعمل بجد، ويخطط للأمد الطويل.
وتذكروا قصة السيارات الكهربائية. كان إيلون ماسك نفسه يسخر من BYD، قائلاً إن سياراتها قبيحة ورديئة. ثم، في بضع سنوات، أصبحت BYD أكبر منتج للسيارات الكهربائية في العالم، وتفوقت على تسلا في المبيعات، وأجبرت فولكس فاجن على التراجع في أكبر أسواقها. الآن، نفس السيناريو يتكرر، لكن هذه المرة المجال هو قلب التكنولوجيا نفسها: الرقائق التي تشغل كل شيء.
والأكثر سخرية هو أن أمريكا لا تزال تتباهى بشركات مثل إنفيديا، التي تسيطر على سوق رقائق الذكاء الاصطناعي. لكن دعونا نتذكر: إنفيديا لا تصنع رقائقها بنفسها، بل تعتمد على TSMC في تايوان. وتايوان نفسها تعيش تحت تهديد صيني دائم. فماذا سيحدث إذا قررت الصين، بعد أن تمتلك تقنية EUV الخاصة بها، أن تستخدم نفوذها الجيوسياسي؟ هل ستظل TSMC قادرة على رفض طلبات بكين إلى الأبد؟
في النهاية، تبدو الولايات المتحدة كبطل ملاكمة سابق، اعتاد الفوز بالضربة القاضية في الجولات الأولى، لكنه الآن في الجولات الأخيرة، متعباً، يعتمد على الحكم لإيقاف المباراة بحجة “لكمات غير قانونية”. لكن التاريخ لا يرحم الذين يتوقفون عن الابتكار. الإمبراطوريات لا تسقط بسبب غزو خارجي فحسب، بل غالباً بسبب فقدان الثقة بالنفس، وفقدان القدرة على المنافسة.
الصين لا تسرق التكنولوجيا فقط، كما يحب الأمريكيون القول. الصين تتعلم، ثم تبتكر، ثم تتفوق. وأمريكا، بدلاً من أن تتعلم الدرس وتعود إلى جذورها الابتكارية، تختار طريق الحماية والعزلة. والنتيجة؟ عالم رقمي جديد، يتحدث الصينية في قلبه، بينما تظل أمريكا تتغنى بأمجاد الماضي، محمية بجدران جمركية واهية، تنتظر لحظة الصحوة التي قد تأتي متأخرة جداً.
ربما حان الوقت لأن يتعلم الأمريكيون درساً من خصومهم: الابتكار لا يحميه الحظر، بل يولد من العمل الجاد والتخطيط البعيد. وإلا، فإن المستقبل الرقمي سيكون مكتوباً بحرف صيني، والولايات المتحدة ستكتفي بدور المتفرج المر، الذي يصرخ “غير عادل!” بينما يتقدم العالم بدونها.